[size=32](أرغون).. والتحالف ضد المسلمين
(في ذكرى وفاته: 6 من ربيع الأول 690هـ)



يعد أرغون بن آباقاخان واحدًا من أكثر سلاطين الإيلخانيين عداء للإسلام وحقدًا على المسلمين، ومن أشدهم جبروتًا وظلمًا وسفكًا لدماء المسلمين.

والإيلخانيون أسرة مغولية حكمت إيران زهاء قرن من الزمان، وامتد حكمهم من نحو عام (654هـ = 1256م) إلى عام (756هـ= 1355م).

ومؤسس هذه الأسرة هو (هولاكو خان بن تولوي بن جنيكيز خان)، وقد استطاع هولاكو توحيد صفوف المغول تحت رايته واجتاح العالم الإسلامي، مرتكبًا العديد من المذابح والفظائع التي تقشعر لها الأبدان حتى سقطت بغداد في أيدي المغول سنة (656 هـ= 1258م).


قطز يقضي على صلف هولاكو


تمكن هولاكو من الاستيلاء على معظم أقاليم العالم الإسلامي، فاستطاع الاستيلاء على الجزيرة والشام ودمشق وحلب وديار بكر وربيع، ولم يبق أمامه سوى مصر التي كان يحكمها المماليك. فأرسل هولاكو برسالة إلى السلطان قطز سلطان المماليك، تمتلئ بالوعيد والتهديد، وتقطر بالصلف والغرور، وتحمل معاني المهانة والتحقير، يدعوه فيها إلى المبادرة بالاستسلام، والإسراع بتقديم فروض الطاعة والولاء لسلطان المغول، وإعلان الخضوع.

ولم يكن أمام قطز إزاء كل هذا الصلف والغرور إلا أن يرد بحسم وقوة على وعيد هولاكو وتهديده، ويمحو تلك الإهانة التي وجهها إلى سلطان المسلمين، فأمر بقتل رسل هولاكو والخروج بجيشه للتصدي لصلف المغول، فالتقى بهم في يوم (25 من رمضان 658 هـ= 24 من أغسطس 1260م) في عين جالوت؛ حيث ألحق بهم هزيمة منكرة، ودفعهم إلى الفرار في تلك الموقعة.


وفي عام (663 هـ= 1265م) تُوفي هولاكو خان، عن عمر بلغ ثمانية وأربعين عامًا، تاركًا لأبنائه وأحفاده تلك الإمبراطورية الشاسعة التي امتدت من الهند شرقًا إلى شواطئ البحر المتوسط غربا، وضمت إيران، والعراق وسوريا وآسيا الصغرى.
وتعاقب على عرش الإيلخانيين في إيران عدد من أبناء هولاكو خان وأحفاده، الذين شاركوا في الحفاظ على تلك الإمبراطورية، وعملوا على زيادتها واتساعها ومنهم آباقا خان، -أو أبغا كما تسميه المصادر العربية-، وهو أكبر أبناء هولاكو وأول خلفائه على مملكته العريقة.


وبالرغم من أن آباقا خان كان بوذيًا فإنه كان شديد العطف على المسيحيين، وقد ارتبط بملوك أوروبا المسيحية وباباواتها، وعقد معهم عددًا من المعاهدات كما تحالف معهم ضد الدول الإسلامية في مصر والشام وآسيا الصغرى، وسعى إلى القضاء على سلطان المماليك ودولتهم في مصر والشام، وارتكب عددًا من المذابح ضد المسلمين، حتى إنه قتل من المسلمين العزل في آسيا الوسطى ما يزيد على مائتي ألف مسلم؛ انتقامًا منه لهزيمة جيوشه فيها على يد جنود بيبرس.


تكودار أول حاكم إيلخاني مسلم



وتُوفي آباقا خان سنة (680 هـ = 1281م)، وخلفه أخوه (أحمد تكودار)، وكان تكودار قد اعتنق المسيحية في صغره، وسُمي (نيقولا)، ولكنه أسلم بعد ذلك وسمى نفسه أحمد تكودار؛ فكان أول حاكم إيلخاني يعتنق الإسلام.

وقد حاول تكودار أن يحمل المغول اعتناق الإسلام، ونجح في إقناع عدد كبير منهم، كما سعى إلى تحسين العلاقات بينه وبين المماليك، وإنهاء حالة الحرب والصراع بين المغول والمسلمين.

وقد شجّع هذا ابن أخيه الأمير أرغون بن أباقا خان إلى الثورة عليه بمساعدة كبار أمراء المغول وقادتهم، وانتهى الأمر بمقتل تكودار في (17 من ربيع الآخر 683هـ = 4 من يوليو 1284م). وأصبح الطريق إلى العرش ممهدًا أمام أرغون، الذي كان يعتبر ذلك حقه منذ وفاة أبيه آباقا خان.


اعتلاء أرغون العرش


وكان أرغون دمويًا يكره المسلمين؛ فسعى منذ اليوم الأول إلى إقصائهم عن جميع الوظائف والمناصب المهمة في الدولة، وعندما شعر (شمس الدين الجويني) صاحب الديوان ببوادر الغدر من أرغون بعد توليه الحكم فر من خراسان إلى أصفهان؛ خوفًا من بطشه، ولكنه خشي على أسرته من جبروت أرغون وتنكيله بهم؛ فقرر العودة إلى أصفهان، والتوسل إلى أرغون للعفو عنه وعن أقاربه، مستشفعًا بطول خدمته هو وأقاربه للإيلخانيين لنحو ثلاثين سنة.

ولكن خصومه اتهموه بخيانة السلطان السابق ودس السم له، فعقدوا له محاكمة صورية، وتقرر أن يفتدي شمس الدين نفسه بالمال، فطلب مهلة لتدبير المال، فباع أملاكه، واقترض من أصدقائه وقومه، حتى تمكن من جمع ما يقرب من أربعين تومانًا (أربعمائة ألف من الذهب)، وبالرغم من ذلك فقد صدر الحكم بإعدامه هو وأبنائه الأربعة وحفيده، وعدد من أفراد أسرته، وتم تنفيذ الحكم في (4 من شعبان 683هـ = 17 من أكتوبر 1248م)، كما تم إعدام أبنائه الأربعة، وصودرت جميع أمواله وممتلكاته.


التحالف ضد المسلمين


وسار أرغون على نهج أبيه وجده من التحالف مع المسيحيين، والسعي الدائب إلى القضاء على المماليك، وتقويض سلطانهم، والاستيلاء على أملاكهم، ومن ثم فقد حرص على إرسال السفراء والبعوث والرسائل إلى ملوك أوروبا وباباواتها، كما سعى إلى التحالف مع حكام دول أوروبا المسيحية، وإثارتهم لحرب المماليك، وفي سبيل ذلك أرسل السفارات والوفود والرسل إليهم يحملون رسائله لتشجيعهم على التعاون، وحثهم على حرب المماليك.


فأرسل رسالة إلى البابا (هونوريوس الرابع) سنة (684هـ = 1285م) قال فيها:
(أنفذنا إليك رسلنا لتلتمس من قداستكم إرسال جيش إلى مصر، فإذا قدمتم من جهة وجئنا من الجهة الأخرى، استطعنا بفضل عساكرنا الأصحاء الأشداء أن نستولي على هذه البلاد، ولتخطرنا عن طريق رسول صادق أمين كيف يجري تحقيق هذا الموضوع، وسوف نطرد بذلك المسلمين بفضل ما يبذله من مساعدة كل من البابا والخان الكبير)، ولكنه لم يتلق ردًا منه.


ثم أرسل رابان صوما Rabban Sawma (أي الحبر الصائم)، وكان أحد كبار رجال الكنيسة في آسيا سفيرًا إلى فيليب لوبل ملك فرنسا، وإداوارد الأول ملك إنلجترا سنة (686، 687هـ = 1287، 1288م)، فعرض عليهما التحالف معه، وتكوين حلف (أوروبي مغولي) للقضاء على نفوذ المماليك في آسيا الصغرى والعراق والشام.
وقد لقيت تلك الأفكار والمقترحات استجابة كبيرة لدى كل من الملكين، إلا أنها لم تخرج إلى حيز التنفيذ.


تقريب المسيحيين واليهود


وكان أرغون شديد الاهتمام بالعمران وإقامة الأبنية؛ فأنشأ قصرين كبيرين في الجانب الغربي من (تبريز)، كما شيّد مدينة (بين القصرين) واهتم ببناء العمائر ذات النقوش الجميلة والسقوف المقرنسة والشرفات المقوسة، وسميت تلك المدينة بـ(لأرغونية)، كذلك عُني بترميم الكنائس التي تهدمت في عصر السلطان أحمد تكودار.
وراح أرغون يُقرب المسيحيين واليهود، فعهد بالوزارة إلى طبيب يهودي يُدعى (سعد الدولة) كان قد نجح في علاجه من علة شديدة أصابته، ومنذ ذلك الحين قرّبه أرغون وجعله من خاصته حتى إذا ما آلت إليه أمور السلطنة كافأه بمنصب الوزارة، وجعله كبير مستشاريه.


سعد الدولة ومؤامراته



اشتهر (سعد الدولة) بالذكاء والمكر، وتميز بالمرونة وطلاقة الحديث باللغتين التركية والمغولية، كما كان على دراية تامة بكل ما يجري في بلاط الإيلخانيين، وساعده على ذلك أنه كان طبيبًا؛ مما مكنه من الاتصال بكل الأطراف ذات النفوذ في البلاط، والتردد على جميع ذوي المكانة والسلطان في الدولة.


واستطاع سعد الدولة بدهائه أن يوطد لنفسه، ويكتسب ولاء الرعية وحبها له، ويستميل قلوب الناس إليه، من خلال قيامه بعدة إجراءات إصلاحية؛ فقد منع السادة الإقطاعيين من نهب أموال الناس وابتزازهم، وعمل على تخفيف وطأة الضرائب والالتزامات عن كاهل الشعب.


وأراد أن يجعل لحكومته طابعًا عسكريًا صارمًا، فحرَّم على القادة العسكريين الامتناع عن تنفيذ قرارات المحاكم.


وسعى سعد الدولة في البداية إلى إرضاء المسلمين ومصانعتهم، وتجنب إثارة سخطهم حتى تستقر له الأمور؛ فزاد فيما يرصد من الأوقاف على الأعمال الخيرية، وجعل النظر في قضايا المسلمين وفقاً للشريعة الإسلامية، وشجّع العلماء والأدباء، ولكنه في الوقت نفسه راح يكيد للمسلمين، ويضيق عليهم، ويمنعهم من الوصول إلى المناصب الرفيعة والوظائف الكبرى.


ثم لجأ سعد الدولة إلى مؤامرة أخرى لإثارة أرغون ضد المسلمين وتحريضه على اجتثاثهم، فأوعز إليه أن النبوة قد انتقلت إليه بالتوارث عن جنكيز خان، وأنه بذلك أصبح رسولا من عند الله، وكان يسعى من وراء ذلك إلى التعجيل بوقوع الفتنة والصدام بين أرغون والمسلمين، وهو أمر واقع بلا ريب بعد أن يرفض المسلمون اعتناق دينه الجديد.

واستشعر سعد الدولة قوة نفوذه ومضاء سلطانه، فأطلق يده في كل شئون الدولة، واستبد بالسلطة، وعهد بالمناصب العليا والوظائف الكبرى لأقاربه وأبناء نحلته من اليهود، حتى صاروا يسيطرون على كل أجهزة الدولة ومرافقها، وأصبح لهم الكلمة العليا في جميع أمور الدولة من دون أمراء المغول، من غير أن يملكوا من الخبرات أو الكفاءات والمهارات ما يؤهلهم لذلك.


وقد أثار هذا المسلك نقمة أمراء المغول عليه، وتربصهم به بعد أن أصبح هو الآمر الناهي، ووجدوا أنفسهم معزولين عن الدولة والسلطان، لا يملكون أية سلطة أو نفوذ حقيقي في البلاد، فاتفقوا على التخلص منه والقضاء على أتباعه وأنصاره.
وسرعان ما سنحت لهم الفرصة عندما مرض أرغون واشتد عليه المرض، فقرر الأمراء التعجيل بالتخلص من سعد الدولة وأتباعه؛ فقبضوا عليه وساقوه إلى منزل الأمير (طغا جاد) أكثر الناقمين عليه وأشدهم عداوة له حيث تم القضاء عليه في صفر (690هـ = فبراير 1291م).

ولم تمض أيام قلائل حتى تُوفي أرغون في (6 من ربيع الأول 690هـ = 9 من مارس 1291م).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[/size]