لهذه الأسباب فشل انقلاب الزبيري على الرئيس بومدين




لهذه الأسباب فشل انقلاب الزبيري على الرئيس بومدين  Mahieddine_Amimour_ph_Ghermoul_02_745473278

حاوره: عبد الحميد عثماني

رئيس تحرير التحقيقات والحوارات الكبرى بجريدة الشروق


يقلّل الدكتور محي الدين عميمور من دور "ضباط فرنسا" في حماية الرئيس هواري بومدين من انقلاب الطاهر زبيري، حيث يذهب إلى القول بأن الحادثة قد حملت بذور فشلها منذ البداية، معتقدا أن هؤلاء - أي رفقاء شابو- تميّزوا بالانسجام، وكانت لهم مهارات في إدارة الصراعات حول حواشي السلطة، ما سمح لهم بالتوحّد في حال الشعور بالخطر، مقابل ذلك، فإن المجاهدين "العروبيين"، قد ذهب كثير من كوادرهم في مهبّ المعارك الاستفزازية.
وفي الجزء السابع من حواره مع "الشروق"، يبرّر مدير الإعلام سابقا برئاسة الجمهورية، انفضاض جماعة وجدة، وأعضاء مجلس الثورة، من حول قائدهم، بعد الاستيلاء على الحكم، بغياب التوافق في العمل السياسي، ويرفض إطلاقا ما يشيعه بعض الخصوم، بشأن عدم إطلاق قائد أركان الثورة لأي رصاصة خلال حرب التحرير الوطني !.
بماذا تفسر بقاء 8 أعضاء فقط عند وفاة بومدين من مجموع 26، ألم يكن ذلك دليلا على أن الرئيس جعل من المجلس مجرد ديكور للتغطية على سياساته وقراراته؟
أساس العمل السياسي هو التوافق، وعندما يغيب هذا التوافق يصبح الانسحاب أو الإعفاء أمرا لا مفر منه، وأذكرك بأن هناك من أعضاء المجلس من فرّ ليلا، على ما روي آنذاك،عن طريق مطار عنابة مثل بومعزة، ومن انتقل إلى رحمة الله مثل مدغري وصالح السوفي والعقيد عباس والسعيد عبيد، وهناك من فضل التجارة مثل صالح صوت العرب، ومن أنهيت مهامه، إثر اختلاف مع أعضاء آخرين من مجلس الثورة انحاز الرئيس لموقفهم، مثل شريف بلقاسم، وهناك من انسحب أو هُمّش سياسيا بسبب الاختلاف مع الرئيس نفسه مثل قايد أحمد، ومن أخذ موقف التمرد مثل الطاهر زبيري.
وكلهم وطنيون، ولكن كان لكل منهم وجهة نظره وموقفه وهذه هي الحياة السياسية.
هل يعني ذلك أن شريف بلقاسم رحمه الله، كان من ذوي الحظوة لدى بومدين، كونه من "المقربين الأولين"، أم لرجاحة آرائه ومواقفه...؟
كان "سي جمال" من ألطف من ينتقدون بومدين، حيث كان يلجأ إلى النكتة لتمرير نقده، وقد كان بالغ الذكاء لطيف المعشر ولا يخفي قربه من الرئيس، وله دوره الرائع في إنقاذ معلمي المدارس الأهلية عندما كان وزيرا للإرشاد بناء على توجيه وزير الدفاع آنذاك، وهكذا احتضن الوظيف العمومي كل معلمي جمعية العلماء المسلمين وأصبحوا العمود الفقري للتعليم، وكذلك دوره في تنظيم الاحتفالات بالعيد العاشر للاستقلال في 1972، والذي كنت كلفت فيه بالجانب الفني والثقافي.
هناك سؤال أرجو ألا تغضب منه، خصوم بومدين يقولون إنه لم يتألق خلال الثورة في معركة واحدة مع العدو، وهناك من قال إنه لم يطلق رصاصة واحدة على جندي فرنسي...؟.
أرجو ألا تغضب أنت من الإجابة، وأنا شخصيا لا أعرف مدى صحة هذا الادعاء ولكنك تعرف أن هناك من قال نفس التعبير على واحد من القادة الستة التاريخيين وهو العربي بن مهيدي، بل ونفس الهذر وجّه لأحمد بن بلة وبوضياف.
من جهة أخرى، نحن لسنا بشرا متميزين عن بقية العالم، وبالتالي فإن ما يجري عندنا يجب أن نقارنه بما يجري عند الآخرين، وهنا أسأل: من هم قادة الدول الذين تألقوا في معارك حربية، هم معروفون، وأولهم نابليون بونابرت، ولكن لا تنسى أن هذا القائد الكبير سلمه الجنرالات الفرنسيون الذين رفعهم إلى مرتبة الماريشالية إلى خصومه ليتم نفيه إلى جزيرة إلبا ثم إلى جزيرة سانت هيلانة، ليموت بحسرته على يد سجان من أعدى أعدائه البريطانيين.
هناك قائد آخر هو الماريشال فيليب بيتان، بطل معركة فردان التاريخية، وهو مات أيضا في السجن بعد أن حكم عليه النظام الفرنسي بعد التحرير بالإعدام، ثم خفف الرئيس دوغول الحكم إلى السجن مدى الحياة.
والآن، هل يمكن أن يذكر لي القافزون جدا اسم المعركة التي تألق فيها الجنرال شارل دوغول، الذي بنى الجمهورية الخامسة وأعطى فرنسا قوتها الذرية وبرامجها الصناعية، بعد أن جعل منها ندا دوليا لبريطانيا وأمريكا وروسيا.
وما هي المعركة العسكرية الكبرى التي تألق فيها جمال عبد الناصر، الذي اضطر إلى الاستسلام في الفالوجة خلال حرب فلسطين الأولى، ولكنه الزعيم الذي بنى مصر الحديثة وأقام، مع رفاق آخرين، حركة عدم الانحياز.
وما هي المعركة الكبرى التي تألق فيها الماريشال اليوغوسلافي جوزيف تيتو، على غرار معركة "أوسترليتز أو "فردان" مثلا، برغم أنه كان قائد المقاومة ضد ألمانيا.
وحتى الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور، قائد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، كشفت معلومات نشرت مؤخرا عن الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها خلال إدارته للصراع مع المحور.
منطق الحرب يختلف عن منطق السلم، ومتطلبات التدمير تختلف عن متطلبات التشييد، هذه هي الحياة.
ولن أطيل، أكتفي بأن أسرد لك ما قاله واحد من المجاهدين الذين تناقضوا مع بومدين وهو الطاهر زبيري، الذي قال في مذكراته، (ص 22)، بأن بومدين طلع نجمه بعد أن نجح في قيادة الأركان الغربية عام 1958 بينما أخفق غيره، مما أهله ليكون القائد الأوحد للأركان العامة.
ويروي زبيري أيضا عن تمسك بومدين بكل معالم الاستقلال الوطني عندما يورد في (ص 137) رفض بومدين طلب الروس إقامة قاعدة في المرسى الكبير، ويروي ما قاله له الرئيس حرفيا من الروس إذا دخلوا الجزائر فلن يخرجوا منها.
والحديث يطول، لكنني أقول لقرائك: عندما تسمعون أي أقاويل حول قيادات الجزائر اسألوا في البداية عن شخصية القائل وعن خلفيات أقاويله.
حتى الآن ...أنت لم تتمكن من دحض تلك الأقاويل...وكل ما أدليت به يذكرني - مع فارق في القياس- بقصة البرتغالي مورينيو، فهو أشهر مدرّب كرة قدم في العالم اليوم، لكنه لم يمارس اللعبة في حياته قطّ...؟
لست خبيرا في تاريخ كرة القدم، لكن ما أقوله هو قاعدة عامة مسلم بها، يجب أن نحكّمها في كل ما نسمعه من آراء وأحكام، والمنطق يقول إن أي ادعاء يجب أن يُحكم عليه من خلال الحكم على قائله، خصوصا إذا لم تدعمه بينة أو حجة دامغة، وقد رويت لك ما أعرفه ولست مستعدا لأتصرف كأنني "بوعريفو" الذي يدعي العلم بكل شيء.
هل تعتبر بومدين مدينا لضباط فرنسا بسبب مساهمتهم الفاعلة في إجهاض انقلاب 67، أم العكس هو الصحيح، فهم ردّوا جميل الإدماج والترقية في صفوف الجيش الوطني... ؟
بداية، المعروف أن فشل الانقلاب يعود أساسا إلى سوء إدارته والتخطيط له، والدبابات التي تكلف بالانقلاب كان يجب أن تحمل على شاحنات خاصة ولا تدفع للتحرك بجراراتها من بعد عشرات الكيلومترات، وعبر طرق كثيفة الحركة المرورية، وهي وضعية الطريق من العفرون.
وقيادة الانقلاب كان يجب أن تضمن تأييد أكبر عدد من القيادات العسكرية، وأن تكسب ودّ عديد الفعاليات السياسية، وأن تدرك أن أول أسباب النجاح هو السيطرة على الإذاعة والتلفزة.
باختصار شديد، الانقلابات الناجحة لا يقودها هواة، مهما كانت درجة وطنيتهم وحبهم لبلادهم، ومن هنا فإن دور الضباط الذين أشرت لهم لم يكن يتميز بأي عبقرية خاصة أو إنجاز متفرد، وهو ما كان معروفا على مستوى القيادة السياسية.
من جهة أخرى، أنا شخصيا لا أحب تعبير "ضباط فرنسا"، وقد تحدثت عن وضعيتهم أكثر من مرة، ورويت، في إجابة على سؤال سابق، ما قاله واحد ممن اختلفوا مع الرئيس بومدين، وهو الطاهر زبيري، وأكرر ما أشار له من كفاءة وانضباط لدى الضباط الفارين من الجيش الفرنسي، ولكن لا بد من الاعتراف بأنه كانت هناك تخوفات مشروعة لدى عديد المجاهدين، أثبتت الأيام أنها لم تكن كلها أوهاما، لكنهم فرضوا أنفسهم لأن وجودهم كان دائما مترابطا متحدا، منسجم التوجهات ومتمرسا في فنون الصراع بكل أنواعها، وكان يتميز بإحساسه الدائم بالخطر، وبولائه الظاهر للقيادة السياسية، وسنلاحظ عبر المسيرة كلها أن من دفع ثمن الصراعات كان من المجاهدين المنتمين لما يسمّى التيار العروبي، ممن كانوا يعتزون بجهادهم ويتشبثون بمواقف وآراء يرونها حقا، ومن هنا وقع معظمهم ضحية لاستفزازات ربما كانت مقصودة.
يعني أنّ المجاهدين "العروبيين" كانوا أقل ذكاء في معارك الاستفزاز السياسي والاستنزاف السلطوي، إن جاز التعبير، وستكون الفكرة أوضح، لو تفضّلت بشرحها وتشخيصها، من خلال الوقائع والأسماء...؟
أي متابع للأحداث التي عشناها، وأي مطلع على ما كتب عبر السنوات الماضية ليس محتاجا لأروي له، "بالباء والتاء" كل التفاصيل، وأنا لا أعتبر نفسي "شهر زاد" التي ينتظر منها أن تروي كل شيء ليرضى عنها شهريار.
هل تنكر أن بومدين غذّى تناقضات الجيش، حتى يتمكن من السيطرة على عناصره..؟
لكي أجيب على سؤالك يجب أن أعرف ما هي هذه التناقضات التي تتحدث عنها، وأذكرك بأنك أنت نفسك تحدثت عن التناقضات بين المساعدين الذين اختارهم بومدين، وقلت لك إن الرئيس كان يعمل دائما على أساس منطق التوازن بين الأشخاص والأفكار والبرامج، وبالتالي فإن التوازن كان يعني أيضا ضمان التكامل في وجهات النظر وفي المواقف، وهو ما يعني عدم التطابق في وجهات النظر، لكن الانضباط كان هو القاعدة الأولى والرئيسية للقوات المسلحة.
بلعيد عبد السلام يقول إن بومدين كان يثق في جهاز الأمن العسكري ثقة عمياء، لماذا برأيك...؟
رئيس دولة يعرف أن حولنا، وربما أيضا بيننا، خصوم يتحينون الفرصة للانقضاض على مسيرتنا، يجب أن يثق في جهاز مخابراته، ورئيس لا يسير على هذا النهج هو رئيس يتجاهل أول ضروريات المسؤولية الرئاسية وأهم متطلباتها، لكنني أستطيع أن أقول إن بومدين لم يكن يثق ثقة "عمياء" في أي شخص كان، ويُخضِع مساعديه لأكثر من تجربة ليتأكد من إخلاصهم ووفائهم وحيادهم وموضوعية نصائحهم.
لكنه يؤكد وقوعه في المغالطة من طرف "الجهاز" أحيانا، لأهداف معينة...؟
اللجوء إلى الأحكام المطلقة والكلام العمومي المرسل قد يكون مقبولا خلال دردشة عابرة تدور في المقاهي حول أحجار "الدومينو" أو كؤوس "الآتاي"، ولكنه لا يمكن أن يكون أساسا لحوار موضوعي يستهدف الوصول إلى الحقيقة، ولقد ذكرت لك حادثة شخصية عن تقرير أمني شفوي رفع إلى الرئيس بشأني، لكن بومدين طلب ملفا موثقا، يؤكد ما ذهب له التقرير، ليتخذ القرار المناسب، وأنت تعرف أنني بقيت إلى جانب الرئيس إلى يوم وفاته، ثم عملت مع الرئيس رابح بيطاط خلال الأيام الصعبة لإعداد انتقال السلطة، ثم أصر الرئيس الشاذلي بن جديد على أن أظل إلى جانبه في عهدته الأولى، وهكذا عملت لمدة 13 سنة متواصلة في نفس الموقع الرئاسي.
عذرا سيدي...هذا ليس كلام مقاه...بل هي شهادة أحد أثقل وزراء الرئيس، وأنت نفسك ذكرت في ثنايا هذا الحوار مدى قربه من بومدين...؟
الكلام الذي لا تصحبه بينة ولا تؤكده مواقف واضحة هو بالنسبة لي كلام مقاه، أيا كان قائله، وما يقوله إنسان ملتزم بوضعية الانضباط التي تتطلبها مناصب السلطة العليا، قد لا يقول نفس الشيء إذا تحرر من واجبات التحفظ، والبشر هم البشر في كل مكان وزمان كما قلت لك.
البعض يرى كذلك أن بومدين وضع "الميثاق الوطني"، لأنه كان يخشى التراجع عن سياسته بعد الرحيل أو الوفاة...؟
هذا القول يصب في صالح الرئيس الراحل، وقد سبق أن قلت إن الميثاق الوطني كان قاعدة إيديولوجية لحزب جبهة التحرير الوطني في انطلاقته الجديدة بعد 1977، وأعتقد أنه أمر مشرف للرئيس بومدين أن نقول إنه كان يخشى التراجع عن سياسته بعد وفاته فاعتمد وثيقة استفتى عليها الشعب بعد مناقشات موسعة ومعمقة، والواقع أن التراجع حدث فعلا في مجالات كثيرة لأن البشر هم البشر في كل مكان وزمان.
بالمناسبة...هل فعلا أن الرئيس بومدين رحمه الله كان يخطط لمراجعة بعض سياساته لولا أن تداركه الأجل، وأريدك أن تحدّدها ولو على سبيل المثال...؟
قلت لك إن من بين ما قرأته في مذكرات بومدين على سرير المرض في موسكو، أنه كان يعتزم إنهاء مهام مصطفى لشرف كوزير، وكانت هناك أسماء أخرى وإجراءات لا أتذكرها الآن بعد نحو أربعين سنة، وأذكرك بما سبق أن رويته عن الرئيس، عندما قال لي بأن على كل أن يتحمل مسؤولياته في مؤتمر الحزب القادم، كما أذكرك بكثير من الإجراءات التي تم اتخاذها بعد وفاة الرئيس، وقال خلفه آنذاك على لسان الأخ محمد الصالح يحياوي في عيد العمال 1979 إن الإجراءات تقررت في حياة بومدين، ومنها إلغاء تصريح الخروج وزيادة منحة العملة الصعبة وأشياء أخرى، لا أتذكرها الآن لطول المدة.